بحث
بحث متقدم
Category: فكر سياسي

 

 إن لله سنن في أرضه لا تتبدل و لا تتغير و لا تحابي أحداً ، إن ولادة الحضارة أو اندثارها نتيجة حتمية لما وصل إليه أبناؤها من رقيّ في الثقافة و إبداع في الفكر أو من انحطاط في القيم و انعدام في الأخلاق .
إن وجود القوة العسكرية وحدها لن يجدي في إبقاء أمة مالم يكن لها مَعين علمي وثقافي وأخلاقي ، فقوة المغول العسكرية لم تجعل منهم أمة معتبرة رغم سيطرتهم على العالم ولم يلبث الإسلام وحضارته أن لفهم فأصبحوا من أبناءه ، وإن التطور التقني و العلمي لن يكفي وحده دون سور من القيم و الأخلاق يضمن التجانس النفسي و الإجتماعي لأبناء الأمة الواحدة.
إن القوة العسكرية و التطور التقني المجرد من الضوابط الأخلاقية الذي حملته الحضارة الغربية لم يحمل للعالم إلا الدمار و الخراب ، ففي القرن العشرين (قرن المذابح المليونية )كما يسميه (بريجنسكي ) مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر و الذي يَذكر في كتابه ( الفوضى ) أن الحربان العالميتان الأولى و الثانية استهلكت من العسكريين حوالي 8.5 و 19مليوناً على التوالي ، المدنيون من ضحايا الأعمال العدائية بلغ عددهم في الحرب العالمية الأولى 13 مليوناً أمّا الثانية فقد راح ضحيتها 20 مليوناً ، هذه الأرقام المروعة يوازيها و يطغى عليها أخلاقياً إجمالي أرقام أخرى مروعة تبرز حقيقة الحضارة الغربية فهتلر قتل وحده 17 مليون نسمة و لينين أباد عدداً يتراوح ما بين 6 إلى 8 مليون نسمة و في عهد ستالين قتل ما لا يقل عن 20 مليون نسمة أمّا ضحايا حكم ماو في الصين فإن عددهم يتراوح ما بين 27 إلى 29 مليون إنسان ،    ( طبعاً الشيوعية هي سليلة التفكير الغربي ) ، الخلاصة أن ما لا يقل عن 167 مليون إنسان لقوا مصرعهم في مذابح القرن العشرين بإضافة بعض الإحصائيات الأخرى و معظمهم مسؤولية الحضارة الغربية ( علماً أن بريجنسكي أسقط من حساباته الحروب الأخرى التي ألهبها الغرب مثل حروب غزو ليبيا من قبل إيطاليا و احتلال فرنسا للجزائر و ضحايا الحروب العربية الإسرائيلية ) ، إنّ الماضي الذي ذكرناه يتضافر مع الحاضر الذي نعيشه ليعطينا صورة واضحة حقيقية عمّا تحمله هذه الحضارة للغير ، فبعد سقوط الإتحاد السوفيتي سياسياً و حضارياً ازداد تركيز الغرب على منطقتنا الإسلامية و هذه المرة تجاوز الناحية السياسية و المادية لينتقل إلى الجانب الديني الحضاري على اعتبار أن الإسلام و أمته و ما تحمل من موروث تاريخي و قدرة على التجدد المنافس الحضاري الأساسي للحضارة الغربية و القادر على إسقاطها _ حسب التفكير الغربي _ في ظل دخول الآلاف من أبناء الغرب في الإسلام إثر إفلاس حضارته من الناحية الروحية و الخلقية ، فالإنسان الغربي أصلح كل شيء و فشل في إصلاح نفسه يقول السيناتور الأمريكي ( وليم فولبرايت) صاحب كتاب (حماقة القوة ) : ( لقد وضعنا رَجُلاً على سطح القمر و لكنّ أقدامنا غائصة في الوحل ) ، فمشكلة الغرب ليس مع الأصولية الإسلامية بل مع إسلام يمكن أن يعيد إحياء حضارة دانت لها الدنيا ،كما أوضح صموئيل هنتنغتون في كتابه صراع الحضارات حيث يقول : ( المشكلة في الغرب ليست مع الأصولية الإسلامية المشكلة الإسلام حضارة مختلفة و شعوبها مقتنعة بتفوقها الثقافي ) و قد أوضح هنتنغتون أن الغرب يعتبر الإسلام الخطر الأكبر على استمراره يقول : ( منذ الوهلة الأولى التي حطّ فيها المغاربة في إسبانيا إلى الحصار التركي الثاني لفيينّا كانت أوربا تحت تهديد مستمر من الإسلام ، الإسلام الحضارة التي وضعت استمرار الغرب في شك و لقد فعلت ذلك مرتين على الأقل ).
يا ترى هل هذا صراع بين الحضارات أم أنه عداء للحضارة الإسلامية قد يساعد في التفاف الغربيين حول هويتهم في المستقبل المنظور.
يا ترى هل هذا صراع بين الحضارات أم صراع ضد الحضارات لتعزيز نظرية التفوق الغربي التي نادى بها( فرانسيس فوكاياما ) صاحب كتاب ( نهاية التاريخ و الإنسان الأخير ) الأعلى مبيعاً عام 1992 _ الذي يعتبر الحضارة الغربية و تربع الليبرالية و السوق على عرش العالم هو التطور الأرقى و الأخير للجنس البشري _
 إن الذي ذكرناه ليس صراع بين الحضارات بل هو صراع ضد القيم و الأخلاق و التطور البشري ، لكنّ سنن الله باقية فحضارة الدمار و القتل مصيرها للزوال إننا نرى الآن أمام أعيننا سقوط الحلم الإمبراطوري الأمريكي ورموزه ومفاهيمه الدينية التوراتية المتصهينة في العراق، في سلسلة متلاحقة من فشل استراتيجيات وتكتيكات وخطط أصيلة وبديلة ومضادة  أمام عزم المقاومة العراقية الشريفة،و في سورية في ظل فشل سياسة الحصار و الضغط الدولي على اعتبار سوريا البلد الأخير الداعم لحركات المقاومة في المنطقة ، يقول الباحث ( مارتين جاك ) في صحيفة الـ( غارديان ): (( إن فشل بوش في إدراك مدى محدودية القوة الأمريكية عالمياً ، جعله يقدم على مغامرات سيدفع خلفاؤه ثمناً باهظاً نتيجة لها ، وإن هذا القرن ليس قرناً أمريكياً ، كما تصورنا في البداية .. وإنما القرن الذي ستواجه فيه الولايات المتحدة صعوبة كيفية التعامل مع انحطاطها الامبريالي ، مما يتطلب سياسيين واقعيين ، وليس مجرد منظرين )) .
إن هذا السقوط للغرب يضعنا أمام تحديات و مسؤوليات كبيرة لأخذ دورنا الصحيح و السليم في هذه المرحلة التي أوصلنا إليها جمودنا في التفكير و العمل أولاً و هذا العدوان المتواصل على أمتنا ثانياً, و لنتذكر أن لا سبيل لمواجهة ذلك إلا بما كان عليه أسلافنا من المسلمين الفاتحين الذين لم يرثوا الأرض إلا و هم لقيادتها أهل يقول المستشرق ( غوستاف لوبون ) :
( فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب و لا ديناً سمحاً مثل دينهم ) و الذين التزموا في كفاحهم _ لملوك الدولتين الباطشتين بالعالم يومئذٍ الفرس و الروم _ حدوداً من العفة و الحق لا تعرف إلا في مواريث النبوات المنـزلة من السماء أولئك الذين فتحت لهم المدن أبوابها و استنقذوا الناس من ذل التبعية و الاستعباد .
فقد كتب ميخائيل السوري بطريرك أنطاكية يقول : ( إن ربَّ الانتقام استقدم من المناطق الجنوبية أبناء إسماعيل لينقِذنا بواسطتهم من أيدي الرومان ) , أولئك الذين دانت لهم أطراف الأرض في شرق أسيا و أفريقيا و نشروا حضارتهم بلفيف من التجار لم تعرف أسماؤهم ، أولئك الذين لم يحملهم ظلم المعتدين و كيد الظالمين على أن ينسوا مبادئهم و أخلاقهم في كفاحهم لرد العدوان عن بلادهم أثناء الحروب الصليبية .
إن حمل الإسلام الحقيقي هو السلاح الأكبر  لمواجهة التحديات و تحمل المسؤوليات … الإسلام الذي فيه توازن بين المادة و الروح و بين العقل و القلب و بين الدنيا و الآخرة و بين الحقوق و الواجبات و بين الفرد و المجتمع بلا طغيان ولا إخسار …. الإسلام المنفتح على الآخر بلا ذوبان و الذي يحمل خصوصية من غير إنغلاق … الإسلام الذي لا يقبل الخضوع و الخنوع فهو شعلة في مواجهة المعتدين …… الإسلام الذي يبقي بابه مفتوح لكل التائهين فهو رحمة للعالمين .
و العالم أحوج ما يكون لهذه الرسالة لتنقذه من المادية المسرفة و من النفعية المجحفة و من الإباحية القاتلة و من عصر الخوف و القلق والإكتئاب إلى عصر الأمن و السكينة و الأمل .