بحث
بحث متقدم

mg34

 

مالكوم إكس

إن الحديث عن هذا الرجل (مالكوم إكس) حديثٌ ذو شجون يأخذنا إلى تلك الشخصيات ذات الأثر البالغ في الإسلام والتي انتقلت من ظلمات المعاصي إلى نور الإسلام فأضاءت صفحات من تاريخ هذه الأمة منيرةً لنا تلك الحقائق أن الحرية كل الحرية والسعادة كل السعادة في الدنيا والآخرة قد شملها شرع الله، ولعل ما أشرنا إليه من ظلمات المعاصي عند هذه الشخصيات ليس إلا رفضاً لواقع وهروباً من ممارسات في تلك المجتمعات إلى أن لاح نور من الله فانقشعت تلك الغشاوة واستحال ذاك الرفض وذاك الهروب إلى عملً دؤوب لإعلاء كلمة الله فهي الخلاص وهي الأساس، وإن كنا قد ألمحنا فيما سبق من كلمات إلى شخصياتٍ في تاريخنا الإسلامي كالفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك وقد مرت بتلك المراحل إلا أننا هنا نتكلم عن شخصيةٍ فريدة لم تكن في محيطٍ إسلامي وإنما في بلادٍ سكبت الحرية في حجارة نصبت منها تمثالاً للحرية يومئُ إلى الشرق، في بلادٍ قامت على أنها العالم الجديد إلا أنها قد أخذت من القديم كل الظلم والجبروت والطغيان، في بلادٍ تفاخر بأنها تنافح لتحرير الشعوب إلا أنها ما زالت تكبل أبنائها بسلاسل العبودية على حسب اللون والعرق، في هذه البلاد ( الولايات المتحدة الأمريكية ) ولد مالكوم في التاسع عشر من شهر أيار عام 1925 لأبٍ أسود كان قسيساً في إحدى الكنائس وأمٍ من جزر الهند الغربية، وعندما بلغ الخامس من عمره قتل والده على أيدي جماعة من البيض بسبب نشاطه ضد التمييز العنصري فبدأت أحوال أسرة مالكوم إكس تتردى بسرعة (مادياً ومعنوياً) وباتوا يعيشون على الصدقات والمساعدات الاجتماعية من البيض والتي كانوا يماطلون في إعطائها، ومع هذه الظروف القاسية عانت والدة مالكوم أكس من صدمة نفسية تطورت حتى أدخلت مستشفى للأمراض العقلية قضت فيه بقية حياتها، فتجرع مالكوم وأخواته مرارة فقد الأب والأم معاً، وأصبحوا أطفالاً تحت رعاية الدولة التي قامت بتوزيعهم على بيوتٍ مختلفة، في هذه الأثناء التحق مالكوم بمدرسة قريبة كان فيها هو الزنجي الوحيد، كان ذكياً نابهاً تفوق على جميع أقرانه إلا أن الوضع العام في أمريكا حذا بأحد معلميه إلى نصحه بعدم إكمال تعليمه حيث لا مكان لزنجيٍ مثله بين المثقفين والمتعلمين وكانت هذه نقطة التحول في حياته فقد ترك بعدها المدرسة وتنقل بين الأعمال المختلفة المهينة التي تليق بالزنوج من نادلٍ في مطعم فعامل في قطار إلى ماسح أحذية في المراقص حتى أصبح راقصاً مشهوراً يشار إليه بالبنان، وعندها استهوته حياة الطيش والضياع فبدأ يشرب الخمر ويدخن السجائر ويلعب القمار إلى أن وصل به الأمر لتعاطي المخدرات بل والاتجار فيها، ومن ثم سرقة المنازل والسيارات كل هذا وهو لم يبلغ الواحدة والعشرين من عمره بعد، والمسرح الأساسي لهذا كله حي هارلم في مدينة نيويورك، حتى وقع هو ورفاقه في قبضة الشرطة فأصدروا بحقه حكماً مبالغاً فيه بالسجن لمدة عشر سنوات بينما لم تتجاوز فترة السجن بالنسبة للبيض خمس سنوات وذلك لإشراكه فتاتين من البيض في عملياته

بالرغم مما تنطوي عليه حياة السجون عادةً من مظاهر للفساد إلا أنها ربما أتاحت للإنسان أن يراجع موقفه لا سيما وقد فقد حريته، من هذا المنطلق جعل مالكوم حياته داخل السجن امتداداً لحياته خارجه من تعاطي للمخدرات وممارسةٍ للرهونات إلا أن بعضاً من المناقشات بين السجناء بدأت تلفت انتباهه، ثم ما لبث أن وصله عدة رسائل من أخوته يبلغونه فيها اعتناقهم لدينٍ جديد دينٍ للسود قادرٍ على إنقاذهم وعلى إنهاء عصر سيطرة الشيطان الأبيض، لم يكن هذا الدين سوى أجزاءٍ مبعثرة من دين الله الإسلام قام رجلٌ ادعى النبوة يدعى (إليجا محمد) بالدعوة إليه مؤسساً بذلك جماعة (أمة الإسلام) في أمريكا حيث كان مبنياً بالأساس للجنس الأسود من البشر معتبراً أن البيض ليسوا إلا شياطين تحكم الأرض وأن الله هو إله للسود وحسب، رغم ما حوته هذه الدعوة من انحرافات وشذوذ إلا أن نوراً للإسلام ما زال يلمع في إحدى جوانبها أضاء قلب مالكوم وأخذ عليه عقله، فهي الدعوة التي جاءت لإنقاذ السود وهو أحدهم وقد عانى ما عانى في حياته من فقدٍ لأبويه وضياعٍ لأخوته وبني جنسه، فانكب على دراسة الكتب المتنوعة في مكتبة السجن ودخل مناظراتٍ عديدة كان له فيها الباع الأطول فقد ملك قوة الحجة وفصاحة اللسان

خرج مالكوم من السجن ليأخذ كنيته الجديدة (إكس) أي المجهول بدلاً من (ليتل) نظراً لضياع إسم العائلة الحقيقي أثناء فترات العبودية السابقة التي عانى منها أجداده، تزوج مالكوم في هذه المرحلة من إحدى فتيات أمة الإسلام وكان له منها أربع فتيات، ونظراً لقدراته التنظيمية والقيادية والخطابية فقد تدرج مالكوم شيئاً فشيئاً ضمن الجماعة إلى أن أصبح الداعية الأول خلف مؤسس الجماعة في أمة الإسلام يدعو إلى الانخراط فيها بخطبه البليغة وشخصيته القوية فكان ساعداً لا يمل وذراعاً لا تكّل من القوة والنشاط والعنفوان حتى استطاع جذب الكثيرين للانضمام إلى هذه الحركة، وهو بذلك غير غائبٍ عن متابعة السلطات الأمريكية له، وبالقدر الذي كان منهمكاً فيه بالدعوة لأمة الإسلام بالقدر الذي بدأت تثار حول مؤسس الجماعة (إليجا محمد) الأقاويل فقد كان على علاقة وثيقة بكل السكرتيرات اللواتي خدمن في مكتبه وكان له منهن عدة أولاد، ليكون الانفصال التام بينه وبين أمة الإسلام ـ والتي لم يحبذ كثيرٌ من أعضائها المكانة التي وصل إليها مالكوم إكس في المجتمع الأمريكي ـ إثر تصريحٍ له عقب اغتيال الرئيس الأمريكي (كيندي)

لقد كان خروج مالكوم من جماعة أمة الإسلام بمثابة ولادة ثانية له عقب الأولى داخل السجن، فقد انقشعت تلك الغشاوة عن عينيه وبدأ يبصر الأشياء على حقيقتها، فقد تحرر من أغلال ذاك التنظيم ليبرز زعيماً لا منافس له بين السود الأمريكيين منافحاً عن حقوقهم لكن هذه المرة بعيداً عن ذاك التعصب الأعمى، متوجاً هذه المرحلة من حياته برحلة حجٍ إلى مكة تعرف من خلالها على العالم الإسلامي وعلى دين الله الصحيح، فوجد فيه رسالةً لتحرير الإنسان كل الإنسان مهما كان لونه وعرقه من أغلال العبودية والإستغلال، رسالةً كانت أمريكا في ذاك الوقت في أمس الحاجة لفهمها لأن الإسلام كما ذكر مالكوم أثناء حجه:(الدين الوحيد الذي يملك حل المشكلة العنصرية فيها)، وليس أبلغ من كلمات لوصف هذه الرحلة من ما ذكره مالكوم بنفسه حيث قال:( لقد أوسع الحج نطاق تفكيري وفتح بصيرتي فرأيت في أسبوعين ما لم أره في تسعٍ وثلاثين سنة، رأيت كل الأجناس من البيض ذوي العيون الزرق حتى الأفارقة ذوي الجلود السوداء وقد ألّفت بين قلوبهم الوحدة والأخوة الحقيقية فأصبحوا يعيشون وكأنهم ذاتٌ واحدة في كنف الله الواحد)، عاد الحاج (مالكوم شباز) إلى بلاده إنساناً جديداً باسمٍ جديد يشير إلى أصوله الأفريقية ليتابع نضاله ضد التمييز العنصري في أمريكا متسلحاً بالإيمان ناشراً دين الله في طول البلاد وعرضها، فالإسلام كما يذكر مالكوم:( الدين الوحيد الذي كان له القوة ما جعله يقف في وجه مسيحية الرجل الأبيض ويحاربها) يقصد بذلك المسيحية التي حملها المستعمر في حملاته الصليبية على العالم، لقد أصبحت بذلك دعوة مالكوم عالمية فزار العديد من بلاد العالم وخصوصاً في القارة السمراء مؤسساً بذلك (منظمة الوحدة الأفروأمريكية) وقد أضحى أعلى صوتاً وأقوى حجة زارعاً بذور الحقد والضغينة في قلوب جماعة أمة الإسلام ومؤسسها وقد بدأ رصيدها في الإنحدار ليُتخذ القرار بإسكاته عن طريق التهديد المتواصل أو قتله إذا اقتضى الأمر، وهذا كله يجري تحت نظر وسمع وكالة المخابرات الأمريكية

لقد زاد مالكوم من نشاطه محاولاً أن يعطي كل ما لديه قبل فوات الأوان، فقد عرف بفطرته السليمة وخبرته الواسعة وعلمه الغزير أن أجله قد اقترب فهذا هو درب السائرين إلى الله الساعين إلى الإصلاح ينتقلون من محنة إلى أخرى إلى أن يختارهم الله إلى جواره، إنه زمن الشهادة قالها مالكوم لأحد الصحفيين:( أنا الآن أعيش زمن الاستشهاد فإذا حدث ومت فإنني سأموت شهيد الأخوة، وهي الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ البلاد، لقد وصلت إلى هذه القناعة بعد تجربة شاقة ولكنني وصلت إليها)، لقد أراد مالكوم أن يحقق بموته ما سعى لتحقيقه في حياته يُسجَّل هذه المرة ببرهان الدماء بعدما وصلت الحواس إلى نهاية الطريق.. إنها الحرية التي قال عنها:( إذا لم تكن مستعداً للموت من أجلها احذف كلمة الحرية من قاموسك)، فكان له ما أراد حيث انطلقت ست عشرة رصاصة لتستقر في جسده النحيل وهو واقفٌ على المنصة يخطب الناس وذاك في الحادي والعشرين من شباط سنة 1965 بمدينة نيويورك، لينال الحرية المطلقة من كل أغلال الدنيا وأوزارها، لقد كان الختام ولنعم الختام… نسأل الله أن يتقبله في عداد الشهداء يوم القيامة.

Delicious Digg Facebook Fark MySpace